أدب رقمي

صوفي ماركوط Sophie Marcotte: لاندو والنص التشعبي/ترجمة محمد أسليم

 

نشر جورج لاندو(1) عدة كتب ومقالات عن النص التشعبي، من بينها الوسائط التشعبية والدراسات الأدبية (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، 1991)، وكلمة الرقمي: النص القائم على الحاسوب في العلوم الإنسانية (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، 1993) – وهما مؤلفان حضرهما بتنسيق مع بول دولاني – ثم التشعب/النص/النظرية (2) (منشورات جامعة جونز هوبكنز، 1994)، ولكنه تميز بالخصوص في كتابه النص التشعبي. تقارب النظرية النقدية والمعاصرة والتكنولوجيا (منشورات جامعة جونز هوبكنز، 1992)، أعيد نشره عام 1997 تحت عنوان النص التشعبي 2.0، منشورات جامعة جونز هوبكنز)، وتميز فيه لاندو باقتراح أول دراسة معمقة للعلاقات القائمة بين نظرية الأدب ومفهوم النص التشعبي3)).

يعتبر لاندو من الأوائل الذين اقترحوا تعريفا لمفهوم النص التشعبي وتتبع أصوله، ولكن أهم ما يبرز في أعماله هو تفكيره في الصلات التي تجمع بين النص التشعبي والنظرية الأدبية: فهو يضع هذا التأمل في امتدادات أعمال ديريدا وفوكو ودولوز وباختين وغواطاري، ساعيا لإظهار الطريقة التي يفضي بها النص التشعبي إلى «إعادة تشكيل» النص، وأدوار الكاتب والقارئ، وعملية الكتابة، فيرى أن النص التشعبي يعيد النظر في نظام الحكي وأنَّ القارئ يصير على نحو ما هو مؤلف النص الذي يقرأه. وأخيرا، يعالج لاندو أيضا مسألة تأثير تكنولوجيا المعلومات والنص التشعبي على تدريس الأدب، والإبداع الأدبي، وحقوق المؤلف.

يعرف لاندو النص التشعبي بأنه «نص يتألف من كتل من النصوص – هي ما يسميه رولان بارث بالكلمة والوصلات التي تربط بعضها ببعض»(4). استخدم هذا المصطلح لأول مرة تيودور نيلسون(5) في عام 1964، ولكن لاندو يعزو أبوة هذا المفهوم إلى فانيفار بوش الذي نشر سنة 1945 مقالا، في مجلة أطلانتيك الشهرية(6)، اقترح فيه اختراع ما أسماه بالميمكس، وهو بتعبير لاندو عبارة عن «آلة لاسترجاع المعلومات عن طريق تفعيل روابط ميكانيكية لمساعدة الباحثين على مواجهة مشكل انفجار المعلومات»(7). وقد استخدم بوش في وصفه للميمكس كلمات وصلة (أو رابط)، وشبكة عالمية ومسار(8)، التي تدخل اليوم في جوهر تعريف النص التشعبي واشتغاله. ورغم أن هذا المشروع قد سبق ظهور تكنولوجيا المعلومات، فالميمكس كما تصوره بوش يؤدي إلى إعادة تشكل ممارستي القراءة والكتابة: فقد اقترح العالم التخلي عن الأساليب التقليدية للقراءة وللكتابة التي تقتضي الخطية وتبني طرائق جديدة ترتكز على مبدئي التشابه والتداعي.

 

النص التشعبي ونظرية الأدب

بعد مرور أربعة عقود على مُقترح بوش الذي لم ير النور أبدا، نجد أنفسنا مع النص التشعبي إزاء كتاب لاندو يصفه بالكتاب «المجرد من الجنسية» (9). وبتعبير ديريدا، «لقد أزحنا الكتاب عن المركز»، فدخل الآن في مجال التكنولوجيا، وستكونُ انعكاسات انتقال النص من الطباعة إلى الرقمية كبيرة كتلك التي عرفها عندما انتقل من المخطوط إلى الطباعة مع جتنبرغ في القرن الخامس عشر.

يرى لاندو أن بعض أنصار البنيوية وما بعد البنيوية يعرفون النص بالتعبيرات المستخدمة اليوم في تحديد النص التشعبي «المعلوماتي». وما يهمه هو العلاقة بين نظريات بارث وديريدا وفوكو ودولوز وغواطاري وباختين، من جهة، والنص التشعبي وفقا لتعريفه في مجال المعلوماتية من جهة أخرى، حيث توجد تلك الصلات في قلب تفكيره على نحو ما يعرضه في كتابه النص التشعبي 2.0 كما تحضر في بعض المقالات التي خصصها لهذا الموضوع.

يرى لاندو أن النص التشعبي يشترك في العديد من الجوانب مع النظرية الأدبية المعاصرة، وبالخصوص مع «لامركزية» النص التي اقترحها ديريدا وبارث ومع التعارض الذي يقيمه بارث بين «النص المنكتب» و«النص المنقرئ».

إذا كان مفهوم النص باعتباره شبكة يقع في أساس نظرية النص التشعبي نفسها ويلتقي مع التيار الفكري البنيوي الذي تشكل فكرة الترابط والتبادل أساس مشروعه النظري، فذلك لأن أنصار هذا الطرح يحددون الفكر باعتباره «شبكة». في هذا النظام، كما في النص التشعبي، لا وجود لنواة، وتظل حُدودُ النص «مفتوحة»، لأنه يتألف من مجموعات متعددة تتفاعل فيما بينها.

قد تعود فكرة النص التشعبي باعتباره شبكة إلى تأمل رولان بارث الذي طرحه في كتابه س/ز الصادر عام 1970، ومن ثمة يعتبر لاندو رولان بارث أول من وصف هذا النص “المثالي” الذي ستطلق عليه المعلوماتية اسم النص التشعبي، ويفترض أنَ أفكار بارث حول القراءة تلتقي مع أحد العناصر الأساسية التي ترتكز عليها القراءة النص-تشعبية، وهو أن قارئ النص التشعبي يستطيع أن يصل إلى «النص» من أماكن عدة، حيث لا وجود لنقطة دخول محددة سلفا وأنَّ النص يحمل في ذاته عددا لا محدودا من المعاني المحتملة:

«في هذا النص المثالي، تكون الشبكات متعددة وتتبادل لعب الأدوار دونَ أن يُحَجِّمَ أي منها الباقي؛ هذا النص هو مجرَّة من الدوال، وليس بنية من المدلولات؛ ليس هناك بداية وعكسها؛ يُولَجُ من عدد من المداخل دون أن يكون أي منها مدخلا رئيسيا؛ وما يعبئه من شفرات (تتكاثر على امتداد البصر)، إنها لا محسومة […]ويمكن أن تستحوذ على هذا النص بصيغة الجمع مطلقا نُظمٌ للمعنى، ولكن عددها لا يكون أبدا محصورا بما أنها تقاسُ بلامحدودية اللغة»(10).

علاوة على ذلك، يعرف بارث النص بأنه نظام لا نهاية له ولا مركز ، ما يلتقي، في نظر لاندو، مع أسس النظرية النص-تشعبية نفسها. وبخصوص القراءة، يقترح بارث فكرة أن «رهانَ الأدبي […] هو أن يجعل من القارئ ليس مستهلكا للنص، ولكن منتجا له»(11)، فيأخذ لاندو هذا الجزء من تأمل بارث الذي يؤكد أن قراءة النص تعني «تشبيكه»:

«مثل زلزال، يُباعد النص بين كتل الدلالات بحيث لا تدركُ منها القراءةُ إلا سطحها الأملس الذي يلحمه تدريجيا تدفق الجمل، وخطاب السرد المنساب، ومَجرى اللغة الطبيعي الكبير. يتجزأ الدال الوصي إلى متوالية من المقاطع القصيرة المتجاورة، سندعوها هنا كلمات، لأنها وحدات للقراءة. […] والكلمة تشمل أحيانا مفردات قليلة وأحيانا بعض الجمل؛ وفي هذه الحالة ستصير المسألة مسألة راحة: يكفي أن تكون أفضل مكان يمكن للمرء أن يلاحظ منه الاتجاهات […]»(11).

بالطريقة نفسها، سينتقل قارئ النص التشعبي، تبعا لطرح لاندو، من «كلمة» لأخرى، من «كتلةِ» معنًى لأخرى، ومن «مقطع» لآخر، معيدا بذلك تشكيل ما يقرأ على هذا النحو كلما تقدم في مسار القراءة الذي اختاره.

يرى لاندو أن مفهوم النص التشعبي يلتقي أيضا مع أفكار جاك ديريدا حول النص. ويتمثل هذا التقارب في اطراد استخدام ديريدا في كتبه لمصطلحات الشبكة والروابط والشبكات التي يربطها لاندو كلها بمفهوم النص التشعبي. ولكن، بخلاف بارث الذي تدور أفكاره حول مفهوم اللاخطية، يركز ديريدا بالخصوص على قضيتي انفتاح النص والتناص، ويقترح تصورا للنص يقوم على «التفكيك» و«الإزاحة عن المركز». وبذلك يتشكل النص على غرار «كلمات» رولان بارث من تجميع قطع من المعاني؛ من هنا تحديدا تظهر الصلة بالنص التشعبي بوصفه شبكة من وحدات النص تلتقي فيما بينها بواسطة وصلات إلكترونية.

ويذكِّر لاندو أيضا بتشديد ديريدا في كتابه علم الكتابة(12) على أهمية تكنولوجيا النظم المعلوماتية الرقمية في فحوى الرسالة. يقول ديريدا:

«يوسِّعُ تطور ممارسات الإعلام إمكانيات الرسالة بشكل كبير لدرجة أن هذه الرسالة لا تعود إطلاقا ترجمة لغة مّا مكتوبة ما أو ناقلَ دَالّ من شأنه أن يظل شفهيا في كليته.[…] فالجمع […] بين العلوم الإنسانية والسيبرنطيقا يُشير إلى تغيير […] عميق»(13).

يرى ديريدا أن نهاية الكتابة الخطية تطابق في نهاية المطاف نهاية الكتاب، ويُذكر التعريف الذي يقترحه لاصطلاح التشتت هو الآخر، إلى حد ما، بتعريف النص التشعبي بما أنَّ حدود النص وعلاقاته بما يدعوه ديريدا «خارج النص» قد تعرضا لإعادة النظر:

«بتوسيع منظم لمفهوم النص، يُدخل مفهوم الانتشار قانونا آخر لآثار المعنى أو المرجع (أسبقية «الشيء»، و«الواقع»، و«الموضوعية»، والأساسية، والوجود، والحضور الملموس أو المعقول بشكل عام، وما إلى ذلك)، يُدخل علاقة أخرى بين الكتابة بالمعنى الميتافيزيقي و«خارجها» (التاريخي، والسياسي، والاقتصادي، والجنسي، وما إلى ذلك)»(14).

يستخدم ميشال فوكو أيضا في تصوره للنص اصطلاحي الروابط والشبكات، لاسيما في كتابه حفريات المعرفة، كما يرى أن حدود الكتاب لا تكون أبدا مرسومة بوضوح، إذ يقول:

«ما وراء عنوان الكتاب وسطوره الأولى ونقطة نهايته، وما وراء تكوينه الداخلي والشكل الذي يمنحه استقلاله، فهو [الكتاب] يقع داخل نظام من الإحالات إلى كتب أخرى ونصوص أخرى وجمل أخرى»؛ إنه «عُقدة داخل شبكة»(15).

وفق هذا التصور تكونُ وحدة الكتاب نسبية، ويكون الكتابُ جزءا من شبكة تتألف من مجموعة واسعة من «الملاحظات» و«التفسيرات» و«الفئات» و«القواعد» و«التصنيفات المتناقضة». ويرى لاندو أن أسس تفكير فوكو في النص تقع، مثل تصورات النص لدى بارث وديريدا، في أساس تعريف النص التشعبي نفسه باعتباره شبكة.

ويعتقد فوكو أيضا أن «ما من ملفوظ إلا ووراءه ملفوظات أخرى، ما من قول إلا وتوجد حَولَه شبكة للتعايش، وسلسلة من الآثار، وتوزيعٌ للأدوار والوظائف»(16). وقد قادت هذه الملاحظة الأخيرة لاندو للتنويه إلى أن النص التشعبي يتقاطع أيضا مع مفهومي التناص والتناص الداخلي من حيث إنه يخلق نقط تقاطع يمكن أن يلتقي فيها نص واحد أو عدة نصوص. بعبارة أخرى، يتيحُ تصفح نص تشعبي مّا للقارئ أن «يُبصرَ» مفهوم التناص (17).

والتناص مفهومٌ قديمٌ نسبيا، اقترحته جوليا كيرستيفا بعدما قرأت المنظر الروسي ميكائيل باختين الذي تعود أعماله إلى أعوام 1920(18)، وتُرجمتْ ونُشرت في فرنسا في 1960. وكريستيفا هي مترجمةُ كتاب شعرية دستويفسكي(19) الذي يطرح فيه باختين أن ما من ملفوظ إلا وله علاقة بمُخاطَب، أي بموضوع، ويُجري حوارا مع الملفوظات التي تمَّ إنتاجها سابقا. يرى باختين أن ما من نص إلا ويوجد، في آن واحد، داخل العلاقة الخاصة التي تجمع المتكلم بالمستمع وترتبط بالملفوظات سابقة الإنتاج. بعبارة أخرى، يرى باختين أنه لا وجودَ لملفوظات تظهر خارج معنى سابق. فهو يكتب أن للرواية الحوارية، أي المتعددة الأصوات، استقلالا استثنائيا في بنية العمل، تترك صدى بطريقة ما إلى جانب كلمة المؤلف مقترنة به وبأصوات الشخصيات الأخرى المستقلة والدالة على نحو كامل وأصيل للغاية(20).

يكتب باختين أيضا:

«إن تعدد الأصوات والضمائر المستقلة والمتميزة، والتعددية الحقيقية للأصوات في حد ذاتها، هما السمة الأساسية لروايات دستويفسكي […]. فما يتجلى في أعماله ليس تعدد الطبائع والمصائر في عالم واحد، يسلط الضوء عليه وعيُ المؤلف وحده، ولكن ما يتجلى هو تعدد ضروب الوعي «المتكافئة» وعوالمها التي تلتقي في وحدة حدث معين دونَ أن تنصهر»(21).

وفق نظرية «الالتقاء»(22) التي يقترحها لاندو، يقدم باختين الرواية الدستويفسكية باعتبارها نصا تشعبيا إلى حد تتخذ فيه مختلف الأصوات شكل «كلمات»، أي «وحدات تؤدي معنى».

أخيرا، يُقرِّبُ لاندو بين النص التشعبي والـ «جذروم» على نحو ما يعرفه دولوز وغواطاري(23)، فيرى أن الجذروم كان في حاجة إلى النص التشعبي ليجد تجسيده الأكثر اكتمالا. وبالمثل، فتعريفهما لـ «الهضبة» قد يصف جيدا دور الـ «الكلمات» والـ «مقاطع» في اشتغال الشبكة. فـ «الهضبة» تقع في الوسط؛ والـ «جذروم» الواحد يتألف من «هضاب»(24). ويشرح المؤلفان أن الكتاب المتألف من فصول تكونُ له نقط «ذروةٍ» ونقط «إغلاق» أو «نهاية»، فيقترحان شكلا جديدا من الكتاب يمكنه، في رأي لاندو، أن «يوفر تكنولوجيا للإعلام أكثر فعالية»(25)، ثم يقترحان تعريفا للجذروم يقوم على حقيقة أنه «لا وجود لنقط أو مواقف (…) على شاكلة ما نجدُ في بنية أو شجرة […]»(26)؛ يتألف الجذروم، بالأحرى، من خطوط تتفرق من «وسطٍ» إلى ما لا نهايةٍ. ويرى لاندو أن هذا التعريف يلتقي مع مبادئ قراءة النص التشعبي والوسائط التشعبية وكتابتهما، حيثُ يُمكن استهلال القراءة والكتابة من أي مكان فيهما. ومع ذلك، فلاندو يُنَسِّبُ هذا التقارب مشيرا إلى أن العديد من أوصاف الجذروم التي يقترحها دولوز وغواطاري لا يمكن أن تتحقق بالكامل في تكنولوجيا المعلومات التي تستخدم الكلمات والصور وغيرها من القيود من هذا النوع.

إذا كان الجذروم ليس له بداية ولا نهاية، ولكن له دائما وسط يمتد انطلاقا منه، مما يُقربه من النص التشعبي، فدولوز وغواطاري يصران على أنَّ الجذروم نفسَه لا يتألف من وحدات، «ولكن فقط من تحديدات وأحجام وأبعاد»(27)، وهو ما يخفف من أوجه التشابه مع نظرية النص التشعبي.

 

نقــد

من خلال قراءة كتاب النص التشعبي 2.0، يبدو لي أن الصلات التي يعقدها لاندو بين النص التشعبي والنظرية الأدبية المعاصرة تظل أحيانا قابلة للنقاش. إذا كان لاندو يحرص على تنسيب الصلة بين «جذروم» دولوز وغواطاري، فإن ما يقوله عن بارث وديريدا ربما يستحق تنسيبا أكثر. فرولان بارث، مثلا، حدد نظريته في النص قبل انتشار أجهزة الكمبيوتر، وبالخصوص قبل أن يصير الحاسوب وسيطا لنشر النصوص. وعلى الرغم من أن لبعض نصوص بارث مظهرا مجزءا، فإن النمط المعتمد في نشرها وتوزيعها، وهو الطباعة، يوحي على الفور بوجود خطية ما ومسار للقراءة مرسوم سلفا إلى حد ما(28). وكما توضحُ جينيت ميشو في كتابها قراءة الشذرة: النقل ونظرية القراءة عند رولان بارث، بما أن هذه النصوص الشَّذرية تصل إلى القارئ مع ذلك بين دفتي كتاب، أي بعد أن تخضع لعملية مزدوجة، وهي التغليف وإعادة القراءة، فإنها تتسبب في إعادة النظر في شروط […] القراءة. ولأن الشذرات تعرض للقارئ مجزأة ومركبة حسب سياق معين (في غياب «نظام» فعلي)، فإنها تكون إلى حد ما قد سبق وأن قرئت، سبق وأن تعرضت للإدماج في شبكة من التداعيات التي ما يبقى للقارئ سوى الاسترشاد بها(29).

إذا كان تفكير بارث في النص يقترح في بعض النواحي مفاهيم قابلة للإدراج في نظرية النص التشعبي، فالحقيقة أنه لا يمكن تصور هذا النص بمعزل عن طريقة نشره، وهي جهاز الحاسوب الذي لم يكن ضمن المتغيرات التي اعتبرها بارث لدى صياغة نظريته في النص والقراءة.

ويجب أيضا الاحتراز من تضخيم العلاقات بين نظرية ديريدا ونظرية النص التشعبي. إذا كان ديريدا يُكثر من استخدام مصطلحات يبدو فورا أنها تحيل إلى نظرية النص التشعبي – مثل «الشبكة»، و«ويب» أو «وصلة» – وهذا ما يؤكد عليه لاندو بالخصوص، فلا ينبغي نسيان أن الفيلسوف أولى اهتماما خاصا بالكتابة من منظور الحالة العامة «غير المحسومة» السابقة للنص في رأيه. من هذا المنظور، قد لا يكون النص التشعبي سوى شكل كغيره من أشكال الكتابة. لا ينبغي الإفراط في الظن بأن ديريدا يفكر في هذا «الإحساس» بالحرية الذي ينتاب القارئ عندما يجوب هذا النص «المفجر»، و«متعدد الأبعاد»، المتمثل في النص التشعبي.

ومع ذلك فنصوص لاندو تبقى ضرورية لجميع المهتمين بمستقبل نظرية النص التشعبي. إذا كانت العلاقات بين النص التشعبي والنظرية الأدبية تقامُ أحيانا بطريقة «قسرية»، فالحقيقة أنَّ الفكرة العامة التي اقترحها لاندو تبقى هامة ما دامت تتيح للناقد تبيُّنَ موقع النص التشعبي بين النظريات القائمة وإدراجَه في مشهد النقد المعاصر. قليلون جدا هم الذين تجرؤا على الجهر بإعلان رفضهم لـ «نظرية التقارب» التي اقترحها لاندو الذي أصبح نوعا من «معلم تفكير» للنقاد المهتمين بقضية النص التشعبي، وتوجد أعمال لاندو في مركز اتجاه أميركي إلى حد كبير يسعى إلى ربط النص التشعبي بالأدب وإظهار أن الأدباء قد تصوروا بطريقة ما النصَّ باعتباره نصا تشعبيا قبل ظهور المعلوميات بوقت طويل.

علاوة على ذلك، فما يقترحه لاندو بخصوص النص التشعبي ومساهمته في تدريس الأدب وعالم النشر منيرٌ للغاية. فهو يعرف على وجه الدقة مختلف أنواع الروابط (المعلوماتية) التي يمكن أن تشكل نصا تشعبيا، وذلك بتبيين ليس فقط استخداماتها الممكنة، بل وكذلك الحدود التي تضعنا أمامها:

1 – الرابط «أحادي الاتجاه»: وهو الوصلة التي تجمع كلمة بأخرى، ويمكن أن يؤدي بالقارئ إلى «التيه» وفقدان الاتصال بالنقطة التي انطلق منها في عملية التصفح؛

2 – الرابط «ثنائي الاتجاه»: وهو وصلة بين كلمتين تتيح للقارئ الاحتفاط بأثر رحلة تصفحه؛

3 – الرابط بين كلمة (أو جملة) وكلمة: يتيح للقارئ أن يغادر الكلمة في أماكن مختلفة ويشجع على حضور نقط شارحة، صور أو غيرها من المواد التي من شأنها أن تسلط الضوء على هذا الجزء أو ذاك من النص. في المقابل، فهو يهدِّدُ القارئ لأنه قد يتيه وسط الوثائق الطويلة. وهذا النوع من الروابط هو الأكثر شيوعا في الوثائق المنشورة بشبكة الأنترنت؛

4 – الرابط بين سلسلتين من الحروف («الخيوط strings») – كالجُمَل – يُتيح إنهاء المقطع بسهولة أكبر، ولكنه (أي الرابط) يفرضُ تحضيرا أكبر في مرحلة البرمجة؛

5 – أخيرا، وصلة جُملة (أو كلمة) مع عدة جمل أو كلمات تخول للقارئ مزيدا من الاستقلال عبر السَّمَاح له باختيار مسارات ومساعدته على التوجه بوساطة جداول محتويات أو قوائم. بيد أن المبالغة في استخدام مثل هذه الروابط يُسْهم في إنتاج نص انتقائي للغاية – «صغير للغاية»(30) بتعبير لاندو.

هذه التعريفات ضرورية جدا لناشري النصوص الالكترونية الذين يجب أن يتوقعوا، على نحو ما، احتياجات القراء وأن يتصوروا مختلف الاختيارات التي سيجريها هؤلاء القراء أثناء القراءة. كما أنها مفيدة أيضا للباحثين والمدرسين الذين يرغبون في نشر نتائج أعمالهم في الشبكة العالمية أو في الأقراص المدمَجة. وتوحي وجهة النظر التي تبناها لاندو بأنه يجب على دور النشر أن تصمِّمَ وثائق مرنة، يمكن «استكشافها» بسهولة، وتغييرها عند الاقتضاء. وبالمثل، يقترح دعوة الطلاب إلى خلق نصوص تفاعلية، بصيغة النص التشعبي، بتعبير آخر يقترح دعوتهم إلى اقتسام هذه المساحة اللانهائية للكتابة التي يتيحها لهم النص التشعبي. غير أنه يعرب عن بعض التحفظات: فمن الأخطار التي يواجهها ناشرو النصوص عبر الوسائط الإلكترونية إمكانية أن يجدوا نصوصهم قد تعرضت للتعديل من لدن القراء، بإضافة جديدة أو حذف أخرى كانت مُبرمَجة، وباختصار أن يجدوا القراء يعيدون نشر نصوص مختلفة كليا عن النصوص الأصلية.

منذ صدور أعمال لاندو الأولى، اهتم العديد من الباحثين بالنص التشعبي وبالنشر الالكتروني عموما، منهم إبسن أرسيث وجاي دافيد بولطر وإلانا سنيدر وجيروم ماك غام، على سبيل المثال لا الحصر. أخيرا، لقد مهد لاندو الطريق أخيرا لتأملٍ ما زال يزداد ثراء وعمقا في السنوات الأخيرة، وبدا الآن فقط يُثير حقا العاملين في ميدان الأدب، والذين لا زالوا متحفظين بعض الشيء على هذه التكنولوجيا الجديدة التي جاءت لـ «تلوِّث»، بل ولتزعزع استقرار طريقتهم في دراسة النصوص.

صوفي ماركوط Sophie Marcotte

جامعة مونتريال (كندا)

 

(1) جورج ب. لاندو الآن «أستاذ اللغة الإنجليزية والثقافة الرقمية» بجامعة سنغافورة الوطنية. شغل منصب أستاذ اللغة الإنجليزية وتاريخ الفن في جامعة براون بالولايات المتحدة الأمريكية، طوال عشرين عاما. انظر على سبيل المثال:

http://landow.stg.brown.edu/cv/landow_ov.html

(2) «What’s a Critic to Do? Critical Theory in the Age of Hypertext».

يتألف هذا الكتاب (ص. 1-150) من عشرات المقالات، وتلخص مقدمته نظرية لاندو في النص التشعبي 2.0.

(3) ومن بين مقالات جورج لاندو في النص التشعبي:

– «Popular Fallacies About Hypertext», Designing Hypermedia for Learning, Heildelberg, Springer-Verlag, 1990;

– «Hypertext, Metatext and the Electronic Canon», Literacy Online: The Promise (and Peril) of Reading and Writing With Computers, Pittsburgh, University of Pittsburgh Press, 1991;

– «Hypertext in Literary Education, Criticism, and Scholarship», Computers and the Humanities, no 23, 1989.

(4) Hypertext 2.0, p. 3; je traduis. Voir aussi «What’s a Critic to Do?[…]», p. 1.

(5) أثناء عمل نيلسون في المصانع، اكتشف قدرة الكمبيوتر على إنشاء شبكات من النصوص وإدراتها. ومن شأن مشروعه، المسمى كسانادو Xanadu، أن يخلق قاعدة بيانات تترابط فيها كل النصوص المشكلة للمعرفة بوصلات يولدها الكمبيوتر  انظر:

– Sophie Marcotte, «L’édition des inédits: du manuscrit au texte virtuel», dans Gabrielle Roy, inédite, sous la direction de François Ricard et Jane Everett, Québec, Nota Bene, 2000, coll. «Séminaires», p. 150.

نشر تيد نيلسون في عام 1981 كتابا بعنوان (الآلات الأدبية Literary Machines) تناول فيه مشروع كسانادو.

(6) http://www.theatlantic.com/unbound/flashbks/computer/bushf.htm

(7) Hypertext 2.0, p. 7

(8) «The process of tying two items together is the important thing. When the user is building a trail, he names it, inserts the name in his code book, and taps it out on his keyboard. Before him are the two items to be joined, projected onto adjacent viewing positions. […] when numerous items have been thus joined together to form a trail, they can be reviewed in turn, rapidly or slowly, by deflecting a lever like hat used for turning the pages of a book. It is exactly as though the physical items had been gathered together from widely separated sources and bound together to form a new book. It is more than this, for any item can be joined into numerous trails» («As We May Think »,

http://www.theatlantic.com/unbound/flashbks/computer/bushf.htm )

(9) Hypertext 2.0, p. 25.

(10) Roland Barthes, S/Z, Paris, Seuil, 1970, coll. « Points », p. 12.

(11) S/Z, p. 10.

(12) S/Z, p. 20.

(13) Jacques Derrida, De la Grammatologie, Paris, Éditions de Minuit, 1967, coll. «Critique», 447 p.

(14) De la Grammatologie, p. 20-21.

(15) Jacques Derrida, La Dissémination, Paris, Seuil, 1972, « Tel Quel », p. 49.

(16) Michel Foucault, L’Archéologie du savoir, Paris, Gallimard, 1969, p. 34.

(17) L’Archéologie du savoir, p. 131.

(18) المنطلق «العام» لفكرة التناص هو أن الأدبَ يُصنعُ من الأدب. يعرف ماك أنيو في كتابه معجم النقد الأدبي المعاصر Glossaire de la critique littéraire contemporaine (Montréal, Hurtubise/HMH, 1972),  التناص بأنه «جيولوجيا كتابات تعيد استخدام المواد النصية استخداما غير محدود». وهكذا فكل نص يقع في «نقطة التقاء العديد من النصوص». يشير التناص إلى جميع «علاقات» نص ما مع نصوص أخرى، سابقة له أو معاصرة له، تتجلى في النص نفسه.

(34) صدر كتاب شعرية دوستويفسكي سنة 1929.

(19) Mikail Bakhtine, La Poétique de Dostoïevski, Julia Kristeva (trad.), Paris, Éditions du Seuil, 1970, coll. «Pierres vives», 349 p.

(20) La Poétique de Dostoïevski, p. 33.

(21) La Poétique de Dostoïevski, p. 32-33.

(22) أقتبس هذا التعبير لألان جيفارد الذي اقترحه لوصف نظرية تطورت في سنوات 1990، ترى أن «مفهوم «النص التشعبي» هو فرصة لتحقيق تقارب بين التكنولوجيا والنظريات الأدبية متمثلة خاصة في ما بعد البنيوية والتفكيكية»:

(«Petites introductions à l’hypertexte », dans Banques de données et hypertextes pour l’étude du roman, sous la direction de Nathalie Ferrand, Paris, Presses universitaires de France, 1997, coll. «Écritures électroniques», p. 109)

(23) Voir Gilles Deleuze et Félix Guattari, Mille plateaux. Capitalisme et schizophrénie, Paris, Minuit, 1980, coll. «Critique», p. 14-15.

(24) Mille Plateaux, p. 21-22.

(25) Hypertext 2.0, p. 39.

(26) Mille Plateaux, p. 15.

(27) Mille Plateaux, p. 14.

(28) حول جماليات الشذرة في نصوص رولان بارث، انظر جيرار ميشو:

– Lire le fragment: transfert et théorie de la lecture chez Roland Barthes, Québec, Hurtubise, coll. «Brèches», 1989, 320 p.

(29) Lire le fragment, p. 23-24.

(30) Hypertext 2.0, p. 13.

 

السابق
صوفي ماركوط Sophie Marcotte: النص التشعبي/ترجمة محمد أسليم
التالي
ألان فويلمان Alain Vuillemin: الشعر الرقمي I. تاريخـــه/ترجمة محمد أسليم